تحوّل في براديغم حرب المئة عام على فلسطين | ترجمة

تظاهرة رمزيّة تضامنًا مع ضحايا الحرب على قطاع غزّة، سيول، كوريا | Getty.

 

العنوان الأصليّ: A paradigm shift in the hundred years’ war on Palestine.

الكاتب: رشيد الخالدي.

المصدر: Mondoweiss.

 


 

 ما يأتي مبنيّ على محاضرة ألقاها رشيد الخالدي في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، في «جامعة كولومبيا».

قبل ستّة أسابيع، كان هذا الحديث سيحمل عنوانًا مختلفًا ويقدّم محتوىً مختلفًا إلى حدّ ما. كنت سأعطي في ذلك الوقت الخلفيّة التاريخيّة للحظة الراهنة من خلال الإطار الّذي قدّمته في كتابي «حرب المئة عام على فلسطين: قصّة الاستعمار الاستيطانيّ والمقاومة 1917-2017». يشرح هذا الكتاب الأحداث في فلسطين منذ عام 1917، على أنّها نتيجة حرب شنّتها على السكّان الفلسطينيّين الأصليّين، وعلى مراحل مختلفة، مجموعة متنوّعة من القوى العظمى الّتي كانت متحالفة مع الحركة الصهيونيّة، وهي حركة كانت استعماريّة استيطانيّة وقوميّة في آن واحد. تحالفت هذه القوى لاحقًا مع دولة إسرائيل القوميّة، الّتي نشأت من تلك الحركة.

ما زلت أرى أنّ هذا الإطار أفضل طريقة لشرح تاريخ القرن الماضي وأكثر. لذا؛ هذا ليس نزاعًا قديمًا بين العرب واليهود، ولم يستمرّ منذ الأزل. إنّه منتج حديث كلّيًّا لتدخّل الإمبرياليّة في الشرق الأوسط، وصعود القوميّة في الدول القوميّة الحديثة، سواء العربيّة أو اليهوديّة. علاوة على ذلك، هذه الحرب لم تكن مجرّد حرب بين الصهيونيّة وإسرائيل من جهة، والفلسطينيّين من جهة أخرى، مع الدعم العرضيّ من العرب وغيرهم من الفاعلين؛ بل شملت دائمًا تدخّلًا ضخمًا من القوى العظمى إلى جانب الحركة الصهيونيّة وإسرائيل؛ بريطانيا حتّى الحرب العالميّة الثانية، والولايات المتّحدة وقوى أخرى منذ ذلك الحين. لم تكن هذه القوى العظمى محايدة قطّ، ولم تكن تعمل وسيطًا أمينًا، بل كانت - وما زالت - طرفًا نشطًا في هذه الحرب إلى جانب إسرائيل. نظرًا إلى هذه الحقائق، بعيدًا عن وجود تكافؤ بين الطرفين، كانت هذه حربًا بين المستعمِر والمستعمَر، بين المضطهِد والمضطهَد، وكان هناك دائمًا تفاوت هائل بين الجانبين في فلسطين لصالح الصهيونيّة وإسرائيل.

ومع ذلك، بينما أعتقد أنّ هذا الإطار قد عُزِّز خلال الأسابيع الستّة الماضية؛ بسبب مستوى المشاركة القويّ من الولايات المتّحدة، والطبيعة المحدودة نسبيًّا لمشاركة إيران والدول العربيّة، قد نشهد تغييرًا في المفاهيم بسبب عناصر جديدة ظهرت منذ 7 تشرين الأوّل (أكتوبر). ما أنا على وشك تقديمه هو محاولة مؤقّتة للغاية. بصفة مؤرّخ، أنا متردّد في التنبّؤ بكيفيّة تطوّر الأحداث. ولكن، في ضوء مسار هذه الحرب لأكثر من قرن، من الواضح أنّ عناصر جديدة ظهرت قد تشير إلى أنّ هذه الحرب تدخل مرحلة جديدة، أريد أن أُبرز خمسة من هذه العناصر.

أوّلًا؛ حصيلة القتلى الإسرائيليّين الّتي تجاوزت 1200، وهي ثالث أعلى حصيلة في تاريخ البلاد. قُتِل أكثر من 800 مدنيّ إسرائيليّ، إضافة إلى أكثر من 350 من الجيش والشرطة، وذلك في غضون يوم واحد فقط. قُتِل 64 جنديًّا إسرائيليًّا منذ ذلك الحين. هذه ربّما تكون أعلى حصيلة وفيّات مدنيّة إسرائيليّة على الإطلاق (قُتِل 719 مدنيًّا في الانتفاضة الثانية على مدار أربع سنوات). الخسائر العسكريّة والشرطيّة الإسرائيليّة، إلى جانب تلك الّتي سُجِّلت منذ بدء الغزو البرّيّ قبل أسابيع، تجاوزت بالفعل 400. وهذا سيقترب قريبًا من عدد الجنود الإسرائيليّين الّذين قُتِلوا خلال الغزو الإسرائيليّ للبنان في عام 1982، عندما قُتِل أكثر من 450.

العدد الحاليّ للقتلى الفلسطينيّين الّذي يتجاوز 11500 ليس نهائيًّا، ومن المتوقّع أن يزداد بسبب الوفيات من الأمراض، ووفيات الرضَّع، وأسباب أخرى، فضلًا على احتمال إضافة معظم الـ 2,700 شخص المفقودين إلى حصيلة القتلى؛ هذا يجعله ثاني أعلى عدد وفيات فلسطينيّ منذ عام 1948، عندما قُتِل نحو 20,000 شخص، معظمهم من المدنيّين، ومن المحتمل أن يكون أعلى من عدد الوفيات الفلسطينيّة خلال الحرب الإسرائيليّة على لبنان في عام 1982، حين قُتِل 20,000 شخص، أكثر من نصفهم فلسطينيّون والباقي لبنانيّون (خلال الانتفاضة الثانية قُتِل نحو 5000 فلسطينيّ).

أسرد هذه الإحصائيّات المروّعة دليلًا على عنصر قد يمثّل تحوّلًا في ’البراديغم‘. لقد خلقت أعداد الضحايا الإسرائيليّين، وبخاصّة عدد المدنيّين الّذين قُتِلوا، صدمة مؤلمة اهتزّت لها إسرائيل، والمجتمعات اليهوديّة حول العالم، وفي الغرب بأسره. من الصعب التنبّؤ بالآثار السياسيّة الطويلة الأمد لذلك، لكنّها قد أثّرت بالفعل بشكل ملحوظ في صنّاع القرار في كلٍّ من الحكومتين الإسرائيليّة والأمريكيّة؛ ممّا جعل البلدين أكثر عدوانيّة وتعنّتًا. في الوقت نفسه، فإنّ التأثير السياسيّ الطويل الأمد لعدد الوفيات الفلسطينيّة الهائل خلال فترة قصيرة، ليس فقط في الفلسطينيّين، بل أيضًا في العالم العربيّ، وربّما أبعد من ذلك، لا يمكن حسابه، وقد يؤثّر بشكل كبير في السياسة الداخليّة لدول عربيّة عدّة، فضلًا على مستقبل إسرائيل في المنطقة.

ثانيًا؛ يجب النظر إلى هذه الأرقام في سياق ميّزتين أخريين؛ الأولى أنّ الهجوم المفاجئ من «حماس» وسيطرتها على دفاعات إسرائيل، بما في ذلك هزيمة كاملة لفرقة من الجيش الإسرائيليّ هي «فرقة غزّة»، والفشل التامّ للمخابرات وتكنولوجيا المراقبة الإسرائيليّة، وقتل العديد من المدنيّين الإسرائيليّين، تمثّل المرّة الأولى الّتي تُشَنّ فيها الحرب بهذه الشراسة داخل إسرائيل منذ عام 1948. لقد تعرّضت إسرائيل لهجمات شديدة على سكّانها المدنيّين من قبل؛ من صواريخ وانتحاريّين، لكن، منذ عام 1948، كانت كلّ الحروب الإسرائيليّة الكبرى - 1956، 1967، حرب الاستنزاف 1968-1970، 1973، 1982، الانتفاضة الثانية، وجميع الحروب على غزّة - تُخاض أساسًا على الأراضي العربيّة. لم يحدث شيء مثل هذا لإسرائيل منذ 75 عامًا.

ثالثًا؛ الميّزة الثانية أنّ هذه الحرب تمثّل انهيارًا مؤقّتًا لعقيدة الأمن الإسرائيليّة. هذه العقيدة غالبًا ما يُطْلَق عليها خطأً الردع، لكنّها في الواقع مستمدّة من العقيدة العدوانيّة الّتي تعلّمها مؤسّسو القوّات المسلّحة الإسرائيليّة من خبراء القمع البريطانيّين مثل أوردي وينجيت. تنصّ هذه العقيدة على أنّه يمكن هزيمة العدوّ بشكل حاسم، وترهيبه بشكل دائم، وإجباره على قبول الشروط الإسرائيليّة؛ من خلال الهجوم الاستباقيّ أو الانتقاميّ بقوّة ساحقة. في ما يتعلّق بغزّة، كان هذا يعني قصف الغزّيّين دوريًّا، وقتل عدد كبير منهم لإجبارهم على قبول حصار وحظر استمرّ 16 عامًا.

أقول إنّه انهيار مؤقّت لهذه العقيدة؛ لأنّ ما حدث في 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) كان يجب أن يُظهر إفلاسها التامّ، لكن، من الواضح أنّ المؤسّسة الأمنيّة الإسرائيليّة لم تتعلّم شيئًا، وقد ضاعفت من تطبيقها. يبدو أنّهم نسوا قول كلاوزفيتز بأنّ الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى. من الواضح أنّ القيادة الإسرائيليّة ليس لديها هدف سياسيّ واضح في شنّ هذه الحرب، سوى الانتقام لحصيلة الضحايا المدنيّين والهزيمة العسكريّة المهينة في 7 تشرين الأوّل (أكتوبر)، وكلاهما يقدّمان باعتبارهما استعادة للردع. بدلًا من وجود هدف سياسيّ دقيق لهذه الحرب، وضعت الحكومة الإسرائيليّة والجيش هدفًا مستحيلًا يتمثّل في تدمير «حماس»؛ كيان سياسيّ-عسكريّ-أيديولوجيّ يمكن ربّما هزيمته عسكريًّا، لكن لا يمكن بذلك تدميره. سواء كانت «حماس» قد تضعف أو تقوى في النهاية، وهو أمر سنعرفه فقط بعد انتهاء هذه الحرب، فلن تُدَمَّر كقوّة سياسيّة وأيديولوجيّة طالما استمرّ الاحتلال، واستمرّ قمع الشعب الفلسطينيّ.

رابعًا؛ عنصر جديد آخر قد يكون جزءًا من تحوّل في النمط، هو أنّه بعد التعاطف الواسع النطاق الأوّليّ مع إسرائيل على مستوى العالم، كانت هناك ردود فعل سلبيّة شديدة تجاه الحرب الإسرائيليّة على غزّة. وقد كان الحال كذلك في جميع أنحاء العالم العربيّ، وفي معظم الدول الإسلاميّة، وفي معظم أنحاء العالم الآخر، أو بالأحرى العالم الحقيقيّ، باستثناء الولايات المتّحدة وبعض الدول الغربيّة. وكانت هناك ردود فعل سلبيّة شديدة حتّى بين شرائح واسعة من السكّان الأمريكيّين والأوروبّيّين. من المستحيل القول ما إذا كانت هذه الردود ستؤدّي إلى تأثير دائم. لكن من الواضح أنّها لم يكن لها تقريبًا أيّ تأثير ملحوظ في سياسة إدارة بايدن، الّتي تقدّم دعمًا مطلقًا لإسرائيل، يرتقي إلى مستوى المشاركة الفعليّة في حربها على غزّة، الّتي قد تؤدّي إلى التزام القوّات الأمريكيّة بالقتال إذا - لا سمح الله - تطوّر هذا النزاع إلى حرب أوسع.

الردّ في الدول العربيّة على الأقلّ يثبت جهل صانعي السياسات والمحلّلين الغربيّين والإسرائيليّين الّذين ادّعوا بتهوّر أنّ العرب لا يهتمّون بفلسطين. عندما أكّدوا ذلك بثقة، خلطوا بين الأوتوقراطيّين والكليبتوقراطيّين، الّذين يحكمون معظم الدول العربيّة، وبين شعوبهم الّذين يهتمّون بالفعل كثيرًا بفلسطين، حيث أطلقوا أكبر المظاهرات الّتي رأيناها في معظم العواصم العربيّة خلال اثني عشر عامًا. وكان يمكن لأيّ مؤرّخ جادّ أن يخبرهم. لأكثر من قرن، أظهرت الشعوب العربيّة اهتمامًا عميقًا بفلسطين. من المستحيل القول ما إذا كانت هذه الردود السلبيّة القويّة تجاه إسرائيل ستدوم، ومتى وكيف ستنجح الأنظمة غير الديمقراطيّة الّتي تعكّر صفو المنطقة في قمع هذه المشاعر. ما هو واضح أنّه في سياساتهم المستقبليّة تجاه إسرائيل، سيتعيّن عليهم أن يكونوا أكثر حذرًا ممّا كانوا عليه سابقًا، في أخذ الدعم الشغوف من شعوبهم للقضيّة الفلسطينيّة في الاعتبار.

خامسًا؛ ثمّة عنصر خامس وأخير لهذا التحوّل المحتمل في النمط؛ الإجراءات غير المتكافئة الّتي تتبنّاها النخب الغربيّة والسياسيّون في تقييم الأرواح العربيّة أو غير البيضاء من جهة، والأرواح البيضاء أو الإسرائيليّة من جهة أخرى، أوجدت أجواء سامّة في الفضاءات الّتي تهيمن عليها هذه النخب، مثل الساحة السياسيّة، والشركات، ووسائل الإعلام، والجامعات مثل «جامعة كولومبيا». تعتبر هذه النخب، وغيرها الكثير، المذابح الّتي تطال المدنيّين الإسرائيليّين، مختلفة جوهريًّا عن المذابح الّتي تطال أكثر من اثني عشر ضعف عدد المدنيّين الفلسطينيّين. معاناة المدنيّين الإسرائيليّين، وحدهم، أشار إليها الرئيس بايدن في أحدث تصريحاته في تاريخ 15 تشرين الثاني (نوفمبر)، بينما برّأ في الوقت ذاته القصف الإسرائيليّ على غزّة، وكرّر بطريقته المعتادة، الّتي تفتقر إلى التماسك، نقاط الحديث الإسرائيليّة.

هذه الطريقة غير المتكافئة بشكل صارخ سيف ذو حدّين: بينما قد تخدم إسرائيل على المدى القصير، فإنّ التحيّز والمعايير المزدوجة المتأصّلة فيها واضحة للعالم، ولشرائح متزايدة من الرأي العامّ في الغرب، خاصّة الشباب. هذا صحيح بشكل عامّ بالنسبة إلى كلّ مَنْ لم يتأثّر بالتغطية الإعلاميّة المتحيّزة بشدّة إلى وسائل الإعلام الرئيسيّة الخاضعة للشركات الكبرى، الّتي تقدّم عمومًا كلّ الأخبار الّتي تراها إسرائيل ملائمة للطباعة. يُعَدّ دعم 68% من الأمريكيّين، بمَنْ في ذلك غالبيّة الديمقراطيّين، لوقف إطلاق النار في غزّة، وهو تدبير عارضته حكومة إسرائيل بشدّة ومساعدها في البيت الأبيض، مؤشّرًا ذا أهمّيّة كبرى، إن لم يكن مؤذنًا بتغيير في الرؤيا.

مع ذلك، وعلى الرغم من الاستغلال السياسيّ الفجّ لوفيّات المدنيّين الإسرائيليّين واختطاف الرهائن المدنيّين، من الضروريّ الاعتراف بأنّ هذه القضايا تشكّل مشكلة أخلاقيّة خطيرة، فضلًا على المشكلات القانونيّة والسياسيّة، بالنسبة إلى مؤيّدي حقوق الفلسطينيّين. العنصر الأخلاقيّ واضح: يجب حماية النساء والأطفال وكبار السنّ، وجميع المدنيّين غير المسلّحين دون شكّ في زمن الحرب. العنصر القانونيّ يجب أن يكون واضحًا أيضًا. قد يختار المرء عدم تطبيق معايير القانون الدوليّ الإنسانيّ. ومع ذلك، إذا كان المرء يرغب في استخدامها، يجب تطبيقها على الجميع.

تدّعي إسرائيل كذبًا التزامها بالقانون الدوليّ الإنسانيّ، على الرغم من اعترافها صراحة، من خلال «عقيدة الضاحية» الّتي أعلنها في عام 2007 الجنرال السابق جادي أيزنكوت، الّذي هو الآن عضو في مجلس الحرب الإسرائيليّ، بأنّها لا تفعل ذلك. أعلن قادة إسرائيل مرارًا وتكرارًا وعلنًا أنّها لا تلتزم على الأقلّ بعنصرين رئيسيّين من القانون الدوليّ الإنسانيّ، وهما التناسب، الّذي يتطلّب ألّا تكون خسارة الأرواح البشريّة أو الممتلكات مفرطة، بالنسبة إلى الميّزة المتوقّعة من تدمير هدف عسكريّ، والتمييز، الّذي يتطلّب التفريق بين السكّان المدنيّين والمقاتلين. في هجماتها اليوميّة على غزّة، كما في العديد من المرّات في الماضي، أظهرت إسرائيل تجاهلها التامّ لهذه المبادئ؛ من خلال القضاء على أرواح عدد لا يُحْصى من المدنيّين في محاولة لقتل مقاتل أو مقاتلين.

صحيح أنّه بموجب القانون الدوليّ، للشعوب تحت الاحتلال الحقّ في المقاومة، وهذا صحيح، بالطبع، بالنسبة إلى الفلسطينيّين. ومع ذلك، إذا كان المرء يريد المطالبة بتطبيق القانون الدوليّ الإنسانيّ على إسرائيل، يجب تطبيقه بالتساوي على الفاعلين الفلسطينيّين، ويجب الاعتراف بأنّه على الرغم من الانتهاكات الفادحة لإسرائيل لهذه القوانين، يجب أن تخضع انتهاكات «حماس» والآخرين لنفس المعايير.

المشكلة السياسيّة أنّه بينما تنتهك إسرائيل القانون الدوليّ الإنسانيّ بكلّ إفلات من العقاب، وبموافقة شاملة من الولايات المتّحدة وبعض الحكومات الغربيّة، تُسْتَغَلّ انتهاكات الفلسطينيّين للأخلاق والقانون الدوليّ الإنسانيّ المتضمّنة في قتل المدنيّين واختطافهم، الّتي تتجاهل هذه المبادئ الأخلاقيّة والقانونيّة؛ لتشويه القضيّة الفلسطينيّة وتجريمها بأكملها، وليس فقط مرتكبي هذه الأفعال. كما هو واضح من الردود السياسيّة والإعلاميّة والمؤسّسيّة في الولايات المتّحدة وأوروبّا منذ 7 تشرين الأوّل (أكتوبر)، الّتي تركّز بالكامل على هذه الانتهاكات، كما شهدنا في «جامعة كولومبيا» وفي جامعات أخرى، فإنّ النضال من أجل حقوق الفلسطينيّين هو الّذي يُسْتهدَف بذلك.

 

أسئلة ما بعد الحرب 

ما يحدث في الفضاء السياسيّ والإعلاميّ والمؤسّسيّ المعادي، في الولايات المتّحدة والغرب، وهو الفضاء الّذي يشغله الكثيرون منّا، شديد التأثير. إذا قبلنا أنّ إسرائيل مشروع استعماريّ وكذلك قوميّ، فإنّ الولايات المتّحدة والغرب هما متروبولها. كما فهمت حركات التحرّر الأيرلنديّة والجزائريّة والفيتناميّة والجنوب أفريقيّة، لم يكن من الكافي مقاومة الاستعمار في المستعمَرة فحسب. كان من الضروريّ أيضًا كسب الرأي في المتروبول، وهو ما يتطلّب غالبًا تحديد الاستخدام العنيف، إضافة إلى استخدام وسائل غير عنيفة وهي صعبة في مواجهة العنف الهائل الّذي يقترفه المستعمِر. هكذا فاز الأيرلنديّون بحرب استقلالهم من عام 1916 حتّى 1921، وفاز الجزائريّون في عام 1962، وفاز الفيتناميّون والجنوب أفريقيّون كذلك. في الفضاءات السياسيّة والإعلاميّة المعادية الّتي يعمل فيها أولئك الّذين يدعمون حقوق الفلسطينيّين في الولايات المتّحدة وأوروبّا، من الضروريّ الوضوح التامّ في هذه المسائل؛ ليس فقط لأسباب أخلاقيّة وقانونيّة، ولكن لأسباب سياسيّة أيضًا.

على الرغم من أنّ نتيجة هذه الحرب من الواضح أنّه من المستحيل التنبّؤ بها في هذه المرحلة، إلّا أنّها أدّت على الأقلّ إلى التغييرات الّتي وضّحتها. هل ستؤدّي إلى تحوّلات أساسيّة إنسانيّة وسياسيّة في البراديغم؟ أرى ثلاثة أسئلة رئيسيّة هنا؛ أوّلًا؛ هل سيؤدّي طرد مليون ونصف المليون شخص من الجزء الشماليّ من قطاع غزّة، بما في ذلك مدينة غزّة، الّذي هو بمنزلة نكبة جديدة بالفعل، إلى التطهير العرقيّ الدائم لهذه المنطقة الشماليّة؟ ثانيًا؛ هل سيقدّم المجتمع الدوليّ، أو الولايات المتّحدة الّتي غالبًا ما تتصرّف كما لو كانت وحدها تمثّل المجتمع الدوليّ، حلًّا سياسيًّا أصليًّا وجديدًا للنزاع يستند إلى المساواة والعدالة؟ ثالثًا؛ هل، كما هو الأرجح، سيعيد فقط إقامة شكل ما من أشكال الوضع القمعيّ السابق للاحتلال، وحصار الفلسطينيّين في مساحات أصغر وأصغر، مع ضخّ المزيد من الفورمالديهايد في جثّة حلّ الدولتين المتعفّنة والميّتة منذ زمن طويل؟

من المستحيل الإجابة عن هذه الأسئلة اليوم، على الرغم من أنّ تخميني قد يكون نعم للسؤال الأوّل، ولا للثاني، ونعم للثالث.

ومع ذلك، يمكن للمرء أن يأمل أن تُسْتبْعَد نتيجة واحدة: وهي التطهير العرقيّ لجزء أو لكلّ سكّان قطاع غزّة والضفّة الغربيّة؛ من خلال طردهم من فلسطين التاريخيّة، ودفعهم إلى سيناء المصريّة والأردنّ. خلال زياراته الأولى إلى المنطقة بعد اندلاع الحرب، مارس وزير الخارجيّة أنتوني بلينكن، الّذي كان يتصرّف على ما يبدو كفتى مهمّات لإسرائيل، مارس ضغوطًا على حكّام مصر والأردنّ والسعوديّة؛ لقبول هذه النتيجة؛ لكن رفض جميعهم طرحه بحزم. وبذلك؛ كانت هذه الحكومات تتصرّف على أساس مصلحة دولها الوطنيّة، ومن أجل الحفاظ على أنظمتها، ولكن أيضًا في مصلحة الفلسطينيّين، الّذين يعرفون من 75 عامًا من التجربة المريرة أنّ إسرائيل لم تسمح قطّ لأيّ شخص طردته من فلسطين بالعودة.

يمكن العثور على الدليل القاطع على النوايا الخبيثة لـلبيت الأبيض في عهد بايدن، في طلب الميزانيّة الّذي قدّمه «مكتب الإدارة والموازنة» في 20 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 إلى الكونغرس؛ للحصول على مليارات الدولارات من المساعدات العسكريّة لأوكرانيا وإسرائيل. ويشمل ذلك طلب تمويل تحت عنوان «مساعدة الهجرة واللاجئين» لـلاحتياجات المحتملة للغزّيّين الفارّين إلى الدول المجاورة، وللتهجير عبر الحدود، ولمتطلّبات البرامج خارج غزّة.

إلى قصر نظر إدارة بايدن في الانحياز الأعمى إلى جهود الحرب الإسرائيليّة، الّتي تشمل جرائم حرب عدّة محتملة، والّتي لا توجد لها نتيجة سياسيّة ملحوظة أو قابلة للتحقيق، يجب أن نضيف حماقتها السياسيّة المحلّيّة. لقد تجاهلت بشكل حازم المعارضة المتزايدة لدعمها غير المحدود لحرب إسرائيل على غزّة من العديد من مسؤوليها، فضلًا على عناصر رئيسيّة من قاعدة «الحزب الديمقراطيّ». هذه القاعدة تتكوّن بشكل كبير من الناخبين الشباب، والعناصر الليبراليّة والتقدّميّة في المجتمعات اليهوديّة والمسيحيّة، والعرب، والمسلمين، والعناصر الرائدة في المجتمعات السوداء والأقلّيّات الأخرى. مع استمرار هجوم إسرائيل على غزّة بدعم كامل من الإدارة، يصبح من الصعب أكثر فأكثر رؤية كيف سيتمكّن عدد كبير من هذه المجموعات، ولا سيّما تلك الموجودة في الولايات المحوريّة، من التصويت لجوزيف بايدن في عام 2024.

إضافة إلى دعم أمريكا لإسرائيل في إجبار أكثر من مليون شخص على الخروج من شمال قطاع غزّة، لولا المعارضة الحازمة حتّى الآن لبعض الحكومات العربيّة، لأضيفت مشاركة الولايات المتّحدة المخزية في مرحلة جديدة من عمليّة التطهير العرقيّ الإسرائيليّة المستمرّة منذ 75 عامًا للفلسطينيّين من وطنهم. لم نصل إلى هذه النقطة، ونأمل ألّا نصل إليها أبدًا. ومع ذلك، بينما مُنِعَت حتّى الآن من التواطؤ في هذه الفظاعة المحدّدة، فقد انغمست إدارة بايدن بالفعل في هاوية الفساد الأخلاقيّ؛ من خلال دعمها المادّيّ لإسرائيل في ذبح الآلاف من الفلسطينيّين، وجعل غزّة غير صالحة للسكن، وتغاضيها عن التطهير العرقيّ الّذي تقوم به إسرائيل داخل غزّة.

 


 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وشوؤنها وتناولها عالميًّا.